رمزي سليمان
شيء عن البصر والبصيرة
أحب النظر في ليالي الصيف إلى السماء الصافية. القمر، إن كان طالعاً، هو أول ما يشد النظر، خاصةً حين يهلّ هلاله أو يبلغ تمامه. من بعده، أجيل البصر بين النجوم الكبيرة بضوئها الأخّاذ المتلألئ، وبعدها في نجوم كثيرة، صغيرة ولامعة كالذهب الأصفر. أبقى هكذا بعضًا من الوقت، أجدني بعده وأنا انتقل لأحدِّقُ من دون أن أدري في المساحات المعتمة المعلقة في السماء، المًطبقة عليَّ من علِيٍّ بسواد داكن وغامض كسِرّ. ثمة حدس مبهم ينتابني عندها عن أني ربما أبحث عن شيءٍ ما غائر في السواد. بعد أن انتبهت لما أفعل، صرت أمعن النظر عن قصد لدقائق طوالٍ في بقعةٍ دكناء واحدة، أو بالأصح، صرت أفتح عيني على وسعهما وأبقى محدقّا في لبّ السواد، بعينين مرخيتين، لا أزيح رأسي البتة، لئلا يتيه بصري إلى مواضع أخرى. بعد أن صرت أفعل ذلك، بدأت تتجلى أمامي نجومٌ كثيرة لم أكن أبصرها من قبل. في البدء تنجلي نجمةٌ واحدة، فأراها باهتة خجولة، ثم سرعان ما ينجذب نظري إلى نقطة ضوء صغيرة أخرى، تكاد لا ترى، تنجلي لعيني ثم تغور في العمق الأسود، لتعود وتطفو على غلالته من جديد، تتراءى لعيني رويداً رويداً، فأبصرها هي الأخرى باهتةً وخجولة. ثم سرعان ما تطفو على السطح نجمةٌ ثالثة وأحياناً رابعة وخامسة وسادسة، أظل أرى نجومًا بقدر ما تسعف عضلات الرقبة وتعين عينيّ الشاخصتين المأخوذتين بنجوم السماء.
قبل أسبوع ونيف فكرت في لعبتي، أو إن شئتم، في رحلاتي الفضائية. كنت خارجًا من عيادة طبيبة العيون وبيدي مغلف فيه نتيجة فحص قالت أنه اختبار لمجال البصر. كل من أجرى هذا الفحص ولو مرة واحدة لا يستطيع أن ينساه. لقد وضعت الطبيبة ذقني برفق (ولكن بحزم) على متكئ بلاستيكي مجوف كقوس، وأمرتني أن أغلق عيني اليمنى وأنظر في اليُسرى داخل أنبوبة معدنية تفضي إلى مجالٍ أسود داكن، وأن أرقب بروز ومضات سريعة، تارةً تًبرق من ناحية اليمين وتارةً تًشعّ من ناحية اليسار، وأن أضغط على مفتاح يصدر طنينًا معدنيًا في كل مرة أرى فيها نقطة مُشعّة. بعدها كان علي أن أعيد الكَرّة وأنا مغلق عيني اليسرى وفاتح اليمنى.
لم أكن بحاجة لفتح الملف الذي احتوى نتيجة الفحص، فقد أخبرتني الطبيبة، بلغة عبرية ركيكة ولهجة روسية ثقيلة، أن الوضع ليس سيئاً تمامًا، مع أن هنالك ثمة مشكلة في مجال البصر.
دائمًا كنت أفكر أن من المحتمل أن تكون لدي مشكلةً في البصيرة والرؤيا، أو هكذا على الأقل كنت أسمع بأن الناس تتقوّل عني. كثيرًا ما كان يأتيني من يقول لي، أنه يشعر، من دافع مصلحتي بالطبع، أن من واجبه أن يعلمني بأن الناس تتذمر من كوني أترك الأمور الجليلة والقضايا الكبيرة وأتبحر أكثر مما يليق في أمور صغيرة، أضيع عليها من وقتي ووقتهم أكثر بكثير مما تستحقّ، وأن هنالك من قال، من دافع مصلحتي، أن من الأفضل لي لو امتنعت عن طرح أسئلة لا طائل من ورائها لأحد والبحث عن أجوبة لأسئلة لم تخطر على بال أحد. هكذا، على الأقل قيل لي، بدافع مصلحتي، بضع مرّات، حتى أني بدأت أظن بأن ما كنت أحسبه بصيرة نافذة، هو عكس ذلك وأن وما أحسبه رؤيا صحيحة هو في حقيقته اعوجاج فاضح.
قد يكون كل هذا صحيحًا، لكنه لا يمت بأي صلة لمجال بصري وشبكة عيني وقرنيتها وما أرى وما لا أرى. أنا متأكد من أن بصري ورؤيتي ومجالهما سليمان لا غبار عليهما. لهذا لم أكترث بما قالته الطبيبة ولا بما كتبته في تقريرها، والحقيقة هي أني ألقيت بالمغلف الذي احتوى نتيجة الفحص في أول صندوق قمامة صادفته، ذلك لأن ما أعرفه لم يكن بمستطاع الطبيبة، مهما كانت خبرتها، أن تتوصل إليه، كما ولم يكن باستطاعة أجهزتها، مهما علت تقنيتها، أن تكتشفه. نظري سليم معافى، ولا يساورني في هذا أي شك. كل ما في الأمر هو أني، وأنا أنظر في الأنبوبة المعدنية، لم أكن قط أتابع النقاط اللامعة المنبعثة من اليسار أو اليمين، بل كنت أسرّح نظري، كعادتي، إلى المواضع الداكنة في آخر الأنبوب، آملاً أن يطفو فوقها بغتةً ضوءُ ما، يبدأ خجولاً باهتًا ثم سرعان ما يتعاظم نوره.