رمزي سليمان
عن أمور نفعلها في الماء ولا نفعلها في الهواء
هنالك الكثير من الأفعال التي نخجل من القيام بها في العلن ونمتنع قدر المستطاع أن نفعلها في حضرة الآخرين. إذا انحشرت وأنت في السوق أو في وسط المدينة، ولم تعد قادرًا على ضبط نفسك، فإنك عادة ما تهرول محشورًا إلى أقرب مرحاض، حتى وإن كلفك ذلك شراء غرض لا تريده من محل لم تدخله من قبل، أو طلب فنجان قهوة غير مضمون المذاق من مطعم متخصص بالحمص والفول. وإذا انتفخ بطنك مما أكلت أو شربت ثم وقفت أو جلست مع زملاء أو خلان، فإنك على الأغلب لن تجاهر بالضراط في حضرتهم. من الأرجح أنك ستختلق عذرًا يبرر ابتعادك عمن معك بالقدر الذي يسمح بإبعاد الصوت والرائحة عن آذانهم وأنوفهم. هنالك طبعًا استثناءات، ليس في الضراط، فالكل يعملها عدة مرات في اليوم، ولا فرق في ذلك بين الرجال والنساء،.فالأبحاث العلمية تفيد بأن معدلات ضراط الجنسين متساوية، وأن الفرق الأساسي هو في أن النساء يضرطن بوتيرة أكبر والرجال يضرطون فصوصًا أكبر. وللاستشهاد بالإمكان اقتباس الكاتب الأمريكي ذائع الصيت، كورت ونيجوت (Kurt Vonnegut) الذي يقول:
“I tell you, we are here on Earth to fart around, and don't let anybody tell you different “.
ما عدى القلة من الرجال الفخورين بضراطهم و"المتسضرطين" لغيرهم، فإن الجميع يلجئون لأساليب متعددة لإخفاء الصوت وطرد الرائحة. هذا السلوك يحصل إذا ما كنا في الهواء، لكن لو كنا في الماء، فإن الأمر يختلف بصورة جوهرية. فليسأل كل منا نفسه إن لم يقم، ولو مرة، بتسيير ما تعسر في بحر أو حتى بركة سباحة بالقرب من أناس آخرين. وبالنسبة لأفعال أخف من فئة ما لا يستحب، فإنه يكفي أن نكون بالقرب من الماء حتى يقل أو يختفي كليًا حرجنا من فعلها على مرأى الآخرين ومسمعهم. خذوا مثلا البصق على الزجاج. كم مرة في حياتك شاهدت أحدًا يخلع نظاراته أو يقف على الرصيف أمام شباك عرض لألبسة أو لأحذية أو أمام سيارته ويبصق على الزجاج ثم يفركه لتوضيح الرؤية؟ لكن الكل يعملونها بالقرب من الماء حين يبصقون، من دون تكلف، على زجاج منظار الغطس قبل بله بالماء. وإن أردتم مثلا آخر فإنه يمكن ذكر الغناء بأعلى صوت في الحمام، حتى وإن كان في صوت المغني ما يبعده قليلا عن فصيلة البشر.
بعد أن أثبتنا شيوع ظاهرة هذه الاستجابة للماء وتنوع أشكالها، يأتي دور السؤال: لماذا؟. قد يكون ذلك نابعًا من أنها من فئة الأمور التي نصنعها سرّا ولا نصنعها جهرًا. هذا التفسير قد لا يجانب الحقيقة بالكامل، فهو قادر على إعطاء تفسير معقول لبعض ما ذكرت من أفعال (البول والضراظ)، ولكنه عاجز عن تفسير البعض الآخر (النهيق في الحمام والبصق على الزجاج).
أعتقد أن الجواب ذو المصداقية الأكبر يتعلق بمشاعر الراحة والطمأنينة التي يبعثها ملمس الماء لجلد الإنسان، وبخاصة حين يكون جسمه في حالة سكون. هنا لا مفر، مرة أخرى، من الإجابة على السؤال: لماذا؟. لا أدعي أن لدي جوابًا أكيدًا، لكن في جعبتي جوابين محتملين أطلقهما هنا لعل واحدا منها يصيب. الأول متعلق بتجربة الجنين في رحم أمه حين يكون سابحًا في ماء الرحم (الـ (amniotic fluid، ذلك السائل الذي يمد الجنين في أيامه الأولى بمقومات هامة للعيش ويحميه من الصدمات التي قد يتعرض لها بطن أمه، إضافة إلى العديد من الوظائف الأخرى كتسهيل حركته داخل الرحم والحفاظ على حرارة جسده. كل هذه الأمور تساعد على حفظ الجنين في وضع اتزان جيد ومريح. هذا يُرجح إمكانية اقتران ملمس جلد الجنين لماء الرحم، بعد أن تتطور لديه حاسة اللمس، بشعور من الراحة والطمأنينة، وتعميم هذه العلاقة لاحقًا لملمس الماء وربما لملمس سوائل أخرى.
الجواب الثاني لا يتعارض من حيث المبدأ مع ما أسلفت، لكنه يعتمد على نظرية التطور (Evolution). بحسب هذه النظرية فإن الحيوانات البرية، بما فيها البشر، تنحدر من الأسماك وبخاصة من نوع الـسويلكانث ((Coelacanth التي تطورت في الحقبة الديفونيّة (Devonian) قبل حوالي 400 مليون سنة، والتي لم تنقرض تمامًا، بل لا يزال بعضها يسبح في البحار حتى يومنا هذا. بالإمكان تصور هذه السمكة، مثل غيرها من أنواع السمك، تقف أفقيًا في عمق البحر في حين يتواصل جلدها مع المياه المتحركة حولها، وهي تزودها باستمرار بما تحتاج من الأكسجين، إضافة إلى "نشرة بحرية" عن حرارة المياه واتجاه جريانها وما إلى ذلك من المعلومات الحيوية لبقائها. ليس من المستبعد إذًا أن يكون في ملمس الماء لجلد السمكة وقشورها وزعانفها ما يريحها وأن يكون انحسار الماء من حولها مبعثًا لتوترها.
Coelacanth
Temporal range: Devonian–Recent
A specimen of Latimeria chalumnae in the Natural History Museum, Vienna, Austria (length: 170 cm - weight: 60 kg).
يمكن القول، ببساطة، أننا أبناء السمكة، وعليه فليس من المستبعد أن تكون المعلومة، التي تربط ملمس الجلد للماء بالراحة، لا تزال مطبوعة في موضع ما شفرتنا الجينية. وبما أننا قادرين على تخيل ما ليس حاصلاً، فبالإمكان الاعتقاد بأن شيئًا من الشعور بالراحة والطمأنينة قد يعترينا من مجرد النظر إلى الماء، عندما نجلس على صخرة أمام البحر أو بالقرب من جدول يسري في مجراه.
غني عن الذكر أن 400 مليون سنة قد أبعدتنا كثيرًا عن سمكة الـسويلكانث، أم البشر الأولى، وأننا، ما عدى قليلون، لا نقضي أيامنا منبطحين في وضع أفقي ما بين سطح البحر وقعره. بيئتنا تغيرت إلى أبعد مدى. هي اليوم الهواء الذي بالكاد نلمسه وما فيه من حولنا من عمران وآلات وسيارات تهدر حولنا، وطيّارات تطير بضجيجها المخيف فوقنا، وبعض الحيوانات التي أجبرت أو جرأت على البقاء بيننا وعلى رأس كل هذه نحن أنفسنا. نعم، الناس في حياة كل منا، الأهل والأصدقاء والمعارف وزملاء العمل وكل من نتعامل معه أو نصادفه أو نشاهده أو نسمعه. الناس، بما فيهم القريب والبعيد. من تُعايِش ومن لا تُعايِش. من تُعاشر ومن يدخل إلى عالمك من ثقوب سماعات التلفون والراديو وشاشات التلفزيون والحاسوب وغيرها. البيئة الاجتماعية بخيرها وشرها، والتي تشكل أهم مركبات البيئة في التأثير على أحوالنا وعلى إحساسنا بالراحة والطمأنينة والخوف والقلق وغيرها.
ونحن نسبح في الماء أو نضطجع في حمام من الماء الساخن أو حتى نجلس على صخرة أمام البحر العظيم، يستيقظ فينا شعور الجنين في الرحم أو ربما شعور السمكة الأم، فنرتاح، ولو قليلا، مما يقلقنا وممن يتعبوننا. عند ذلك نصير قادرين على القيام بما نريد، ولا نتورع حتى عن البصق على الزجاج.
ملاحظات للمخرج: في هذا المونولوج يجب أن تريب المسرح على صورة مكتب لعالم، تملأه بفوضى واضحة للعيان ملفات وكتب قديمة ومغبرة بعضها على الأرض وبعضا مكوم على طاولة كتابة. العالم يجلس وراء الطاولة مواجهًا الجمهور. منظره يجب أن يوحي للمشاهد بأنه عالم كبير السن، فاقد للاهتمام بمظهره وبملبسه (مثلا في ثياب نوم غير مرتبة) وأنه قد فقد بعضًا من توازنه العقلي (ولكنه ليس مختلا). العالم منكب على القراءة في كتاب كبير الحجم. يضع الكتاب على الطاولة ويخلع نظارات القراءة ببطء ويضعها على الطاولة ثم يمد يده ويبحث بين فوضى الأوراق المبعثرة محدثا بعض الجلبة ويرفه زوج نظارات آخر ويضعه على عينيه ويقوم من وراء الطاولة ويقف ويمشي ببطء وهو مطأطئ الرأس بعض الشيء إلى أن يصل إلى حافة المسرح. يرفع رأسه وينظر إلى الجمهور ويبدأ حديثه.
حين يشرح العالم عملية البصق على نظارات الغطس يخلع نظاراته ويبصق عليه وينظفها بكمه.