أحلى لحظات أمّي
منذ اختارَتْ أمّي أن تغادرَنا، ليلةَ التاسع من كانونَ الثاني، وأنا ما أنفكّ أفكّرُ بها. ولقد بدأتُ مؤخّرًا ألحظُ كيف صرتُ أحكّ يديّ، تمامًا مثلما كانت تفعل أمّي، وكيفَ، وأنا أرقدُ في المستشفى، مثلها صرتُ أدفعُ ماسورةَ الأكسجين بعيدًا عن منخري.
ابنتي التي أعتبرُ أحكامَها تقولُ إنّي صرتُ ألفظُ كلمةَ "لا"، جافةً وقاطعةً، مثلما كانت تقولُها أمّي.
لكن مهما يكنْ من أمر، فإنّ أصابعَ رجلي لا تزالُ مُروَّسةً، كسرواتِ حاكورتِنا، في حين أن أصابعُ رجلي أمّي معقوفةً على بعضِها كجذوعِ تينتنا. وللأمانة، يَجدرُ التحفّظ أنّي غالبًا ما أنامُ عاقفًا رِجلاً على رِجلٍ.
لا مكانَ للتواضع هُنا، لكن حينَ أسمعُ مَن يقولُ مُطريًا: "لازم تكتب قصص"، أفكّر حالاً بأمّي. أيّة قاصّةٍ كانتْ أمّي، وأيّة شاعرةٍ وهي تملأُ أقلَّ الكلام، بل حتّى الأحرف، شعرًا رائقًا.
ما هي أجملُ لحظة في حياتك، قلتُ لها مرة مداعبًا. لم تذكر لحظة زواجها ولا تواريخ ولادة أولادها أو تخرّجهم من المدارس والجامعات ولا كل ما اتُّفقَ على أنّه جدير وهامّ. أجمل لحظات حياتي - قالت - هي حين كنتُ فتاة يافعة، أذهبُ عصرًا لتسلّم غنماتنا من الراعي، يأتي بها "وراء الصلاة"، حداة "الكازخانا". كانت غنماتنا تعرفني بمجرّد أن تراني، فتنفصل عن باقي القطيع وتتبعني. كانت هذه -يمّا - أجمل لحظات حياتي.
منذ غادرتنا أمّي، في التاسع من كانونَ الثاني، وأنا ما أنفكُّ أفكّر بها. أحيانًا.. أتخيَّلني
وأنا أدخلُ بيتنا القديم، فأجدها على جلستِها المعهودة وأسمعها تقول: "ما فيش أحلى من فوتّك عليّ، البيت - يمّا - بدونك غول".