مجلة عدالة الالكترونية
العدد الواحد والثلاثين, كانون أول 2006
عشر سنوات ل"عدالة":
الهوية والقانون والسياسة
ندوة أقيمت في كلية الحقوق في جامعة حيفا يوم 21 تشرين الثاني 2006
بروفيسور رمزي سليمان
عن الهوية والقانون والسياسة
البروفيسور رمزي سليمان, محاضر في قسم علم النفس في جامعة حيفا ومحرر مجلة "ابحاث فلسطينية في المجتمع والتاريخ" اللتي تصدر عن "مدى الكرمل- المركز العربي للابحاث الاجتماعية التطبيقية"
سأتناول في هذه المحاضرة، باقتضابٍ، إمكانيّات ومحدوديّات حلبة القضاء الإسرائيلي، كفضاءٍ للنشاط من أجل تحقيق حقوق جماعيّة للأقليّة العربيّة - الفلسطينيّة. وجوبًا ممّا يستدعيه هذا الحدث، سأتمحور في العمل اللافت الذي قام به تنظيم عدالة وفي العراقيل الماثلة في طريقه حين يُقدم على طرح ادّعائه أمام المحكمة لغرض دفع الحقوق المذكورة. وسأورِد، كحالة دراسية للنقاش في هذه المسألة، قرار المحكمة العليا بخصوص التماس عدالة وجمعية حقوق المواطن بشأن إلزام البلديات التي تعيش في مجالها أقلية عربية، باستخدام اللغة العربية إلى جانب اللغة العبرية، في جميع اللافتات البلدية (م.ع. 4112/99). لكنني أوَدّ، قبل القيام بذلك، ترسيم فكرتي بخطوط عريضة حول "المناخ" السياسي والجماهيري الذي تتواجد وتنشط فيه حلبة القضاء والجدل الدائر في إطارها. وأؤكّد في هذا السياق على النّقاط التالية:
عمليًا، هذا هو المناخ السياسي، الجماهيري، القانوني والقضائي الذي ينشط فيه عدالة. إذ يتوجّب عليه السير على خيط رفيع، وقد حقّق بالفعل إنجازات لافتة وتعزّزت مهنيّته من خلال هذه "البهلوانية". فيتوجب عليه استلال إنجازاتٍ للفرد وللمجموع العربي - الفلسطيني من داخل جدران المحكمة، حيث العديد من الموجودين فيها لديهم "حساسية" تجاه كلّ ما يفوح منه مذاق أو رائحة لـ"الجماعية العربية".
كان في الإمكان، عمليًا، الاعتقاد بأنّ احتياجاتٍ وحقوقًا أساسيّة عديدة تابعة للفرد - أي حقوق الفرد - ليست قابلة للانفصال عن الاحتياجات والحقوق المشتقّة من كون الفرد جزءًا من مجموع. فاللغة، الثقافة، التاريخ وطريقة التفكير او العقلية هي مركّبات جوهريّة لدى كلّ مجموع قوميّ. لكنها، أيضًا، جزء من شخصيّة كلّ فرد. أو كما قال القاضي حيشين: "هي روح الإنسان"، أي الفرد. فالمساس بكلّ مركّب من هذه المركبات، هو مساس بحقوق المجموع، وفي الوقت نفسه، مساس بحقّ الفرد. إنّ عدم إمكانيّة الفصل بين الجماعي والفرديّ لا يسري على هذه المركّبات فحسب، فلو تمّ المساس بإنسان لكونه جزءًا من مجموع، يكون قد تمّ المساس بالمجموع كلّه. والعكس أصحّ.إذا تعرّضت الحقوق الجماعية للمساس، فإنّ حقوق أفراده، أيضًا، تتعرّض للمساس. إذا لم تكن هناك مساواة بالنسبة إلى المجموع، فيتمّ المساس بقيمة المساواة بالنسبة إلى الفرد. إذا لم يكن هناك تعامل قوامه الكرامة مع المجموع، يتمّ المساس بقيمة كرامة الإنسان.
وعودة إلى "بهلوانية" عدالة الرائعة على حبال المحكمة العليا، فعليه الادّعاء لصالح حقوق الفرد العربي - الفلسطيني، الذي يُمسّ بفعل انتمائه الجماعيّ، ولصالح حقوق المجموع بأكمله، من دون أن تشعر المحكمة "الحسّاسة" بأنّ "المذاق والرائحة" الجماعيين حادّان.عليه أن يلعب في ساحة "حقوق المواطن" تحت يقظة عينيّ حكم الخطّ المتشدّد. عليه نقل حقيبة تحتوي على حقوق جماعية عبر جهاز كشف عالي الحساسية يطلق صفيرًا فوريًا، إذا ما لاح على شاشته "غرض مشبوه" بالجماعيّة.
يمكن العثور على المثال الأفضل للعبة "القطّ والفأر" هذه في قرار حكم المحكمة العليا بخصوص وضع اللافتات البلدية. وعلى الرّغم من أنّ التماس عدالة وجمعيّة حقوق المواطن قد قُبل، فقراءة قرار الحكم تدلّ على مدى حدّة حذر المحكمة في كل ما يتعلق بمسألة الحقوق الجماعية.
بعد احتساب كافة التسويغات المختلفة مع وضد سريان تثبيت لافتات مكتوبة بالعربية، يكتب القاضي براك:
"... وماذا بشأن الأغراض العامة الأخرى؟ مكانة اللغة العبرية، كلغة أساسية، لم تُمس مساسًا حقيقيًا. لا يوجد ادعاء - ولو وُجد لكنا رفضناه بكل ما أوتينا من قوّة بفعل وزن القيمة الكبير بشأن اللغة... الادعاء هو إضافة كتابة بالعربية - إلى جانب العبرية - على اللافتات البلدية في المناطق التي لا يقيم فيها سكان عرب بشكل بارز. من الصعب رؤية ما ستُمسّ به اللغة العبرية. على أية حال، حتى لو كان هناك مساس كهذا فهو ضئيل بالمقارنة مع المساس بحقّ الإنسان في لغته وبالحاجة في ضمان المساواة والتسامح. لم يتبقّ سوى الاعتبارات بخصوص الهوية القومية وتعريف الدولة السيادية. وهي قد تتعرّض للمساس إذا ما اضطرّت السلطة المحلية إلى أن تثبّت في اللافتات البلدية كتابات بلغة سكّان البلدة. فاللغات التي يتحدث بها الإسرائيليون كثيرة في إسرائيل. وانتهاك الأطر سيكون نهايته انتهاك الثوابت التي تضمّنا كإطار قوميّ واحد". (م.ع. \994112، البند 23)
المثير في السياق المطروق، هو موقف الأقليّة الذي كتبه القاضي حيشين. فتحت العنوان الفرعي "اللغة العربية كتعبير عن هويّة قومية وثقافية" يكتب:
"يبدو أن الملتمسين يريان في نفسيهما كمن يدّعيان أمامنا باسم الجمهور العربي في إسرائيل برمّته. الملتمسين يدعيان ان حججهما وتذمّراتهما أمام المحكمة هي باسم الناطقين بالعربية كمجموعة ذات تميّز قومي -لغوي".المعركة التي يبغى الملتمسون خوضها هي ليست معركتهم الخاصة بل معركة الأقلية العربية بأكملها. وهما لا يطلبان أن نبتّ في مصلحة مباشرة وفورية، ولا حتى بمصلحة مباشرة ومتميّزة للسكان العرب الذين يقطنون في مجالات المدن المدّعى عليها. بل إنهما ينصبان نفسيهما كممثلين للمجموع العربي في إسرائيل، ويطالبان باسم المجموع نفسه - باسمه ومن أجله - بالاعتراف بحقّ مشتقّ من جوهره كمجموع: الحقّ تجاه سلطات الجمهور - المدن المدّعى عليها وبالأحرى، الدولة برمّتها - في أن يقوموا بحماية ورعاية هوية ثقافية وقوميّة للمجموع العربي". (م.ع. \994112، البند 45)
ويواصل القاضي حيشين، فيكتب:
"إنّ هذا الادّعاء باسم المجموع العربي، ولأجله، يرافق الالتماس من البداية وحتى النهاية، في الأجزاء الخاصة وفي الملاحظات المغروسة على طول الالتماس، تارة هنا وتارة هناك؛ وهذا الادعاء هو، قولاً وفعلاً، الادعاء الذي يبعث الحياة في الالتماس بأكمله ويجعله التماسًا متميزًا بحدّ ذاته. هذا الالتماس يطلب من المحكمة أن تؤسّس منهجيًا لحقّ من فصيلة جديدة: الحق الجماعي لأبناء الأقلية العربية في إسرائيل في الحفاظ على، ورعاية هويّتهم القومية وخصوصيتهم الثقافية. وهو حق لا يدعيه الملتمسان كحق لأبناء الأقلية كأفراد، كلاً منهم بحدّ ذاته. إنّ هذا الحق ينشأ وينمو من انتماء أبناء الأقلية العربية إلى مجموع قومي وثقافي، وهدفه الواضح البادي للعيان هو إلقاء واجبات على سلطات الجمهور وإعلاء مكانة المميزات الخاصة بهذا المجموع". (م.ع. \994112، البند 46)
وهو يضيف في البند 48:
"يطلب الملتمسان منّا، إذًا، أن نعترف بمواطني إسرائيل العرب كمجموعة أقلية قومية وثقافية، مجموعة تستحقّ - بواسطة اللغة العربية - الحفاظ على، ورعاية هويتها القومية وثقافتها المختلفة... يطلب الملتمسان، بالتالي، أن نعترف بمواطني إسرائيل العرب كمجموعة أقلية قومية ذات هوية مستقلة... إنهما لا يسعيان إلى دفع مصالح الفرد. بل إنهما يسعيان إلى دفع مصلحة مشتقة من الخصوصية الجماعية للجمهور العربي، مصلحة تكريس هويته الخاصة واختلاف مجموعة الأقلية. وفي الشأن الذي أمامنا نقول، إن الملتمسين يسعيان إلى تعزيز مكانة اللغة العربية كمركّب مؤسِّس للمجموع القومي العربي وكوسيلة للتعبير عن مميزاته الخاصة. (م.ع. 99\4112، البند 48).
بعد التكرار المرهق لهذا التسويغ، الذي "يكشف" سعادة القاضي حشين فيه النوايا المخبأة خلف هذا الالتماس، فانه يحدّد الدرب الذي يتوجب على الملتمسين السير فيه: خارج جدران المحكمة. وهكذا يكتب: "إن الدولة مخوّلة، بالطبع، بأن تقرّر أنها تريد تقديم المساعدة للحفاظ على، ودفع اللغة الفلانية، سواء أكان ذلك عبر القانون أم عبر طرق أخرى... لكنّ قرارًا كهذا - قرارًا بمستوى رسميّ - محفوظ للسلطة" (البند 53)، ويضيف: "إنّ المحكمة غير معدّة لصبّ أيديولوجيا سياسيّة في إطار المعيار القضائي، ويجب ألا تقوم بذلك". (البند 60).
ويختتم القاضي حيشين وجهة نظر الأقليّة بتأكيده على أنّ "موقع هذه الطموحات هو الحقل السياسي وليس حقل القضاء, وان "التماس الملتمسين، بجوهره وأساسه، يدور حول قرار سياسي بشأن الحقوق الجماعية للأقلية العربية في إسرائيل؛ إنّه قرار سياسي وليس حسمًا قضائيًا نحن معتادون عليه. هذا الالتماس مرفوض علينا". (البند 62).
كما هو معروف، فإن الالتماس المذكور قد قُبل، وانضمّ بذلك إلى سلسلة من الإنجازات اللافتة التي سجّلها عدالة في صالحه على مدى سنواته. وعلى الرّغم من ذلك، فإنّ وجهة نظر الأقلية لدى القاضي حيشين هي ذات أهمية متميّزة. لأنها تقرّ أنه يتوجب على المحكمة العليا الوقوف جانبًا وعدم التدخّل في الحالات التي يتم فيها مساس متواصل بحقوق أفراد عرب كثيرين. وهو ليس فقط مساسًا في المستوى الأدائي متمثّلاً بتعرّفهم على الفضاء البلدي والعثور على الطريق المؤدّي إلى غرضهم، بل مساس بالشعور بانتمائهم إلى الفضاء والمكان، من خلال تشديد الشعور بالاغتراب والغربة لديهم، بل حتى المساس بكرامتهم. وكل هذا، لأن الحقوق الفردية لدى كثيرين قد تؤدّي، لا سمح الله، إلى التأسيس لحقّ جماعيّ.
لست خبيرًا قانونيًا ولا أزعم ذلك، لكن يبدو لي أنّ منطقًا كهذا هو منطق يقترب من العبث! لأنه لو تعرّض حقّ الإنسان الفرد للمساس، ستكون جدران المحكمة مفتوحة أمامه. أمّا لو تعرّض حقّ الكثيرين لذلك، فإن المحكمة ستقفل عندها أبوابها أمامهم إذا ما اعتُبر أنّهم يشكّلون مجموعًا قوميًا عربيًّا!
في المقابل، فإنّ إقرار القاضي حيشين بأنّ "الطموحات السياسية موقعها الحقل السياسي" هو صحيح في نظري، شرط ألا تقوم المحكمة باستخدامه كذريعة لـ"غسل الأيدي" والتنصّل من النقاش القضائيّ في مسائل من هذا النوع. لكن ما الذي يحدث لنا، نحن العرب، اليوم في "الحقل السياسي"؟ وما الذي سيحدث لنا لو أن ذلك "الحقل السياسي" المتمسّك، بكلتا يديه، بتعريف "الدولة اليهودية"، قرّر أن يتعاطى بجدية أكبر مع تعريفنا كمجموع؟ ليس أن يعترف بنا، بل فقط أن يخطّط سياسة تقوم بشكل مشدّد على تعريفنا كمجموع؟ بما أنّ يهودية الدولة هي القيمة العليا، فإنّ الإشارة إلينا كمجموع قد تدهورنا إلى وضع لا تتورّع فيه كنيست إسرائيل عن تشريع قوانين أكثر عنصرية من تلك القائمة اليوم.
وعليه, بالامكان القول ان، مقابل الجهد الهام والحيويّ الذي يقوده عدالة، فإنّ تحقيق العدالة والمساواة التامة لمواطني الدولة العرب يستدعي تغييرًا جوهريًا في أنظمة الحكم، من وضع فيه هيمنة لمجموع قوميّ واحد؛ اليهودي، إلى وضع من الشراكة بين المجموعين.
في مقالة نشرتُها في مجلة عدالة الألكترونيّة، قبل نحو سنة ونصف السنة، تحت عنوان "من الهيمنة إلى المشاركة"، [1] ادّعيت بأنّه طالما تواصل الوضع الرّاهن، فإنّ غالبية الخطاب اليهودي حول "حقوق الأقليّة العربية" هو، عمليًا، خطاب حول "التزام الأكثرية المهيمنة بالنسبة لحقوق الأقلية العربية". وبالفعل، فالموقف الذي نلمسه لدى متّخذي القرار، مثلما لدى معظم اليسار الصهيوني، هو موقف "النبيل السخيّ" (أي موقف الـ noblesse oblige) ليس فقط أن هذا الموقف غير عادل وغير أخلاقي، بل إنه يؤدّي، أيضًا، إلى استغلال "خطاب الحقوق" لأغراض السيطرة على الأقليّة العربية.
تغيير الوضع القائم، اللذي توجد فيه سيطرة لمجموعة واحدة- اليهودية- لوضع يؤمن شراكة حقيقية، بمعنى
"power sharing" بين المجموعتين، لا يضمنٍ فقط تحقيق المساواة في الحقوق لابناء الاقلية العربية-الفلسطينية وللاقلية العربية-الفلسطينية بكاملها، وانما هو هام ايضا لتعزيز التكتل المدني، ورفع التزام الاقلية العربية-الفلسطينية بالشراكة مع الاكثرية اليهودية في اطار المواطنة الواحدة. للشراكة الحقيقية توجد ايضا قيمة اخلاقية هامة لكلا الطرفين، كونها تعزّز المواطن العربي-الفلسطيني وتمنحه شعورا بالاحترام (respect) والاحساس بالقيمة، كما وتمنحه سيادة لائقة على مصيره وعلى المصير المشترك للمجموعتين القوميتين.